Friday 22 November 2024

14 August 2023

القباب.. من روائع العمارة الإسلامية(1-2)

للقباب في المساجد دور جمالي رائع لا تكاد العين تخطؤه من الوهلة الأولى، فإذا ضممنا القبة إلى المئذنة -وهما دائماً متلازمتان في المساجد- تكونت أمامنا صورة جمالية تضفي على المسجد توازناً في الشكل يرتاح إليه النظر، وما ذلك إلا دليل واضح على تمكن المهندسين المسلمين من رسم لوحة متكاملة للمسجد تشكل إبداعاً معمارياً فتاناً يطغى على الكتلة الحجرية الجامدة.


وإذا  كانت القبة خارج المسجد توحي وكأنها متجهة إلى أسفل في رمز لتواضع المؤمن بين يدي ربه، فإنها من الداخل تعطي انطباعاً عكسياً يعبر عن التصاعد والحركة الرأسية لأعلى، حتى يكون المؤمن وهو يعيش جو العبادة عملياً داخل المسجد محاطاً بالإيحاء بالارتقاء والسمو والتعالي.

إنَّ القبة في المسجد أكثر من ظاهرة معمارية استخدمت لأهداف عدة.. إنها رمز لقبة السماء العليا التي ترنو نحوها الأبصار، وتتحرك باتجاهها القلوب، في مزيج من الأمل والخوف والحب والإجلال.

تاريخ القبة في الإسلام

ظهرت القباب في المباني عموماً أول الأمر في آسيا، ثم انتقلت إلى الفرس واليونان فالرومان قبل أن يتلقاها المسلمون، ولا يخلو طراز من طرز الفنون الإنسانية الكبرى من القباب إلا الطراز المصري القديم.

وأول قبة عرفت في الإسلام قبة الصخرة المشرفة التي بناها عبد الملك بن مروان في بيت المقدس في فلسطين مابين عام 69هـ 72 هـ (688 ـ 691م). ثم بعد قبة الصخرة بنى الوليد بن عبد الملك المسجد الأموي بدمشق، وفيه قبة النسر الشهيرة وذلك عام 132 ـ 133هـ ( 750م). ثم توالت القباب في المساجد حتى ندر أن نرى مسجداً له مئذنة دون قبة.. بل إن القباب قد زادت على المآذن من حيث استخدامها في غير المساجد كالقصور والأضرحة وغيرها.

وصف القبة

نقطة البداية في عمل القبة هي ابتكار العقد أو القوس، وأصل ذلك من ابتكار آسيوي، ولكنه تطور على أيدي الفرس والرومان تطوراً واسعاً، ثم جاء المسلمون فساروا بالعقود مدى أبعد وأكثر تنوعا... والملاحظ في  العقود أن  قوة الدافع الحادثة من ضغط الأحجار بعضها  على بعض، وكذلك من وزن البناء الذي سيحمل على العقد، تتوزع في العقود على قطع العقد وأرجله بصورة كاملة التوازن تنتهي باتجاه عمودي نحو الأرض.

وهكذا فالقبة تنشأ من عقود متقاطعة في مركز واحد، هو المفتاح الرئيسي الأعلى للقبة كلها، وقد لجأ المعماريون المسلمون لإقامة القباب إلى العقود فقط لأن سقف المسجد لا يحمل في العادة إلا القبة فقط.

أنواع القباب

يمكن تقسيم القباب إلى أنواع كثيرة بحسب اعتبارات عديدة.

أولاً: من حيث مادة الصنع

أ- هناك القباب الخشبية، وهي التي وجدت في بداية الأمر كقبة الصخرة في القدس (72هـ)، وكذلك كانت قبة الإمام الشافعي (608هـ) الأولى خشبية، وقبة جامع بيبرس (655 ـ 667هـ) وقبة مدرسة السلطان حسن بالقاهرة (757هـ) وغيرها.

ولاشك أن استخدام الخشب أسهل عند بناء القبة من استخدام الحجر، إلا أنه أضعف منه. ومن الطبيعي أن القباب الخشبية تكسى عادة من الخارج بطبقة من صفائح الرصاص للحماية من العوامل الجوية بينما تكسى من الداخل بطبقة من الجص كبياض داخلي عليه زخارف متنوعة.

ب- وهناك القباب الحجرية، أو المصنوعة من القرميد (الطوب)، وهي كثيرة، ومنها قبة مسجد الغوري بالمنشية (909هـ) وقبة خانقاه فرج بن برقوق (801هـ)، وقبة أروقة الجامع الأقمر (519هـ)، وقبة مسجد السلطان سليمان ( 1609م ) باستطنبول، بل إن معظم القباب القديمة إما حجرية أو قرميدية. وبحكم ثقل الحجر فقد كانت قبابه عموماً أصغر من القباب القرميدية...

وقد لجأ المعماري المسلم لحل المعضلة الهندسية -المتمثلة في الانتقال من المربع إلى المدور- إلى استعمال العقود المتقاطعة لإقامة القباب، ومن هنا كانت الحلول المستعملة لتحويل المبنى المربع الشكل أو المستطيل إلى دائرة عن طريق ما يسمى المثلثات الكروية (وهي طريقة رومانية) أوحنية الأركان (وهي طريقة فارسية) أو تحويل الحافة المربعة للجدران إلى هيئة مثمنة، ثم إقامة أعمدة تعتمد على الأكتاف الثمانية وتتلاقى في نقطة واحدة (وهي طريقة إسلامية مبتكرة)... وهكذا كان الشأن في عامة القباب الحجرية أو القرميدية القديمة.

جـ-أما القباب الحديثة، فهي بوجه عام تقوم على هيكل حديدي (أسياخ معدنية متشابكة) يصب فوقه الأسمنت المخلوط بالجص، فإذا جف بلغ الغاية في المتانة والتماسك.. وبواسطة هذه القوالب التي يصب فيها الأسمنت لصنع القبة أمكن التحكم في حجم القبة وشكلها ومتانتها إلى حد بعيد.

وثمة قباب حديثة بدأت تظهر منافسة لقباب الحديد والأسمنت، وهي القباب المصنوعة من مادة الفيبر جلاس والخيوط الزجاجية، وميزتها أنها تسمج بنفاذ الضوء إلى باطن القبة دون أن تسمح لحرارة الجو أو برودته بالنفوذ، إضافة إلى خفة الوزن مع متانة الصنع والقدرة على اختيار الشكل المختار بحرية تامة.

ثانياً: من حيث الشكل العام للقبة

فقد تنوعت إلى قبة ملساء أو مضلعة أو قبة بصلية أو مخروطجية الشكل، والقباب البصلية ترى واضحة في المساجد الهندية، والقباب الطويلة العنق ترى في المساجد السلجوقية، والقباب المدورة ترى في عموم المساجد، خاصة الأيوبية والمملوكية والفاطمية.

ثالثاً:  من حيث الثبات والحركة

فإن الأصل في القباب (كالمآذن) أن تكون ثابتة فوق سطح المسجد، إلا أن التقنيات الحديثة مكنت المعماريين من ابتكار القباب المتحركة التي تتحرك على سكة، ويتحكم بها بواسطة آلات يحركها مفتاح آلي ( مباشر أو ريمونت كنترول).

ومثل هذه القباب المتحركة عرفت في المساجد الحديثة الضخمة، كمسجد الملك الحسن الثاني بالرباط، والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة في التوسعة الأخيرة (وزن القبة 80 طناً).

وبذلك استفيد من تحريك القبة في تجديد هواء المسجد، وفي إنارته، وفي التمتع بالجو الطبيعي المناسب..

بل استخدمت القباب المتحركة على سكة عالية، وهي مرفوعة على جدران تحتها فوق السطح استخدمت في تظليل جزء لا يستهان به من السطح يكون موائما للصلاة فيه، وهذا ما يراه الحاج في أسطح المسجد النبوي الشريف.

 

 

بقلم: عبد الله نجيب سالم